الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} يقول الحق جلّ جلاله: {وما أنزلنا على قومه من بعده} أي: من بعد قتله، أو رفعه {من جُندٍ من السماء} فيهلكهم، {وما كنا مُنزِلينَ} وما كان يصحّ في حكمنا في إهلاك قوم أن نُنزل عليهم جنداً من السماء، كما فعلنا معك يوم بدر والخندق؛ لحظوتك عندنا. وفيه تحقير لإهلاكهم، وتعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في الكشاف: فإن قلت: لِمَ أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق، مع أنه كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة؟ قلت: لأن الله فضَّل محمداً صلى الله عليه وسلم بكل شيء، على كبار الأنبياء وأولي العزم، فضلاً عن حبيب النجار. ه. ملخصاً. {إِن كانت} العقوبة {إِلا صيحةً واحدةً} صاح عليهم جبريل عليه السلام {فإِذا هم خامِدُون} ميتون. الإشارة: كل وعيد ورد في مُكذِّبي الرسل يجر ذيله على مُكذِّبي الأولياء؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، إلا أن عقوبة مؤذي الأولياء، تارة تكون ظاهرة، في الأبدان والأموال، وتارة باطنة، في قسوة القلوب والتعويق عن صالح الأعمال، وكسْف نور الإيمان والإسلام، والبُعد وسوء الختام، وهي الحسرة العظمى.
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} قلت: {كم أهلكنا} معلّقة ليَرَوُا عن المفعولين. و{أنهم}: بدل من {كم}، والتقدير: ألم يَرَوا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون كونهم غير راجعين إليهم. و{وإِن كُلٌّ لمَّا جميع}: من قرأ «لما» بالتخفيف، فإن: مخففة، واللام: فارقة، و«ما» مزيدة، أي: وإنه، أي: الأمر والشأن لَجميعٌ محضرون عندنا. ومَن قرأها بالتشديد؛ فإِنْ: نافية، و«لَمَّا»: بمعنى إلا، أي: ما كُلهم إلا مجموعون ومُحضرون للحساب. يقول الحق جلّ جلاله: {يا حسرةً على العبادِ} تعالى، فهذا أوان حضورك. ثم بيّن لأي شيء كانت الحسرة عليهم، فقال: {ما يأتيهم من رسولٍ} من عند الله {إِلا كانوا به يستهزئون} فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين، المنوط بنصحهم خير الدارين، أحقّاء بأن يتحسَّروا، ويتحسَّر عليهم المتحسِّرون، ويتلهَّف المتلهِّفون. أو: هم مُتَحَسّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. {أَلم يَرَوا كم أهلكنا قَبْلَهم من القُرونِ} أي: ألم يعلموا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون الماضية، {أَنهم إِليهم لا يَرجِعُونَ} أي: كونهم غير راجعين إليهم أبداً حتى يلحقوا بهم، ففيهم عبرة وموعظة لمَن يتعظ. {وإِن كلٌّ لما جميعٌ لدينا مُحْضَرُون} أي: وإن كلهم مجموعون محضرون للحساب، أو معذَّبون. وإنما أخبر عن «كل» بجميع؛ لأن «كل» تفيد معنى الإحاطة. والجميع: فعيل، بمعنى مفعول، ومعناه: الاجتماع، والمعنى: أن المحشر يجمعهم، فكلهم مجموعون مُحضرون للحساب. الإشارة: يا حسرةً على العباد، ما يأتيهم من داع يدعو إلى الله، على طريق التربية الكاملة، إلا كانوا به يستهزئون. ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون، ماتوا على الغفلة والحجاب، وكلهم محضرون للعتاب والحساب، ماتوا محجوبين، ويبعثون محجوبين؛ لإنكارهم في الدنيا مَن يرفع عنهم الحجاب، ويفتح لهم الباب، وهم شيوخ التربية، الموجودون في كل زمان. أو: يا حسرةً على المتوجهين، ما يأتيهم من وارد على قلوبهم إلا كانوا به يستهزئون، ولو فهموا عن الله لعملوا بما يرد على قلوبهم الصافية.
{وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} قلت: «وآية لهم»: مبتدأ، وجملة «الأرضُ الميتة»: خبر. يقول الحق جلّ جلاله: {وآية لهم الأرضُ الميتةُ أحييناها} أي: وعلامة لهم تدلُّ على أن الله يبعثُ الموتى، ويُحضرهم للحساب، إحياءُ الأرض اليابسة بالمطر، فاهتزت وربت بالنبات. {وأخرجنا منها حَبّاً} جنس الحب، {فمنه يأكلون} هم وأنعامهم. وقدَّم الظرف ليدل على أن الحبّ هو الشيء الذي يتعلق به معظمُ العيش، ويقوم، بالارتفاق به، صلاحُ الإنسان، إذا قلَّ جاء القحط، ووقع الضرّ، وإذا فُقد حضر الهلاك، ونزل البلاء. {وجعلنا فيها} في الأرض {جناتٍ} بساتين {من نخيلٍ وأعنابٍ، وفجَّرنا فيها من العُيُون}، «من»: زائدة عند الأخفش، وعند غيره: المفعول: محذوف، أي: ما تتمتعون به من العيون. {ليأكلوا من ثَمره} أي: من ثمر الله، أي: ليأكلوا مما خلق الله تعالى من الثمر، أو: من ثَمَرة، يخلقها الله من ذلك، على قراءة الأخوين. {وما عملته أيديهم} أي: ومما عملته أيديهم من الغرس، والسقي، والتلقيح، وغير ذلك، مما تتوقف عليه في عالم الحكمة، إلى أن يبلغ الثمر منتهاه. يعني: أن الثمر في نفسه فعل الله، وفيه آثارٌ من عمل ابن آدم، حكمةً، وتغطيةً لأسرار الربوبية. وأصله: من ثمرنا، كما قال: {وجعلنا} {وفجرنا}، فالتفت إلى الغيبة. ويجوز أن يرجع الضميرُ إلى النخيل، ويترك الأعناب غير مرجوع إليها؛ لأنه عُلم أنها في حكم النخيل. وقيل: «ما» نافية، على أن الثمرة خلق الله، ولم تعمله أيدي الناس، ولا يقدرون عليه. {أفلا يشكرون} الله على هذه النعم الجسيمة، وهو حثّ على الشُكر. {سبحانَ الذي خلق الأزواجَ} الأصناف {كُلَّها مما تُنبتُ الأرضُ} من النخيل، والشجر، والزرع، والثمار، كيف جعلها مختلفة في الطعوم، والروائح، والشكل، والهيئة، واختلاف أوراق الأشجار، وفنون أغصانها، وأصناف نورها وأزهارها، واختلاف أشكال ثمارها، في تفرُّدها واجتماعها، مع ما بسط فيها من الطبائع الأربع: من الحرورة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وما فيها من المنافع المتنوعة. {ومن أنفسِهم} الأولاد؛ ذكوراً وإناثاً، {ومما لا يعلمون} من أصنافٍ لم يُطلعهم الله عليها، ولم يتوصَّلوا إلى معرفتها، ففي البحار عجائب لا يعلمها الناس. قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. وفائدة التنزيه: نفي تشبيه الذات بشيء من هذه الأزواج. والله تعالى أعلم. قال القشيري: والعَجَبُ مِمَّن يُنكر أصول الدين، ويقول: ليس في الكتاب عليه دليل، وأكثر ما في القرآن من الآيات تدل على سبيل الاستدلال، ولكن يَهْدِي لنوره مَن يشاء، ولو أنهم أنصفوا واشتغلوا بأهم شيءٍ لهم ما ضيَّعوا أصول الدين، ورضوا فيها بالتقليد، وادَّعَوْا في الفروع رتبة الإمامة والتصدير، وفي معناها قيل: يا مَنْ تصدَّرَ في دَسْتِ الإمامة من *** مسائل الفقه إمْلاءً وتدْريسا غَفَلْتَ عن حججِ التوحيد تُحْكِمُها *** شيَّدتَ فرعاً وما مَهَّدتَ تأسيسا قلت: وحاصله: مدح علم الأصول وترك علم أصل الأصل، وهو علم التوحيد الخاص، أعني الشهود والعيان. وقد قلتُ في ذلك: تذليلاً: يا مَنْ تصدّى لعلم الأصل يُحكمه *** قد فاتك الذوق بالوجدان مستأنسا الإشارة: وآية لهم النفس الميتة بالجهل أحييناها بالعلم، وأخرجنا منها علماً لَدُنيًّا، فمنه تتقوّت القلوب والأرواح، وجعلنا فيها جناتِ المعارف، من نخيل الحقائق، وأعناب الشرائع، وفجَّرنا فيها من عيون الحِكَم، ليأكلوا من ثمره، ومما عملته أيديهم، من المجاهدات والمكابدات، فإنها تُثمر المشاهدات. سبحان الذي خلق الأزواج كلها من الأحوال، والمقامات، والعلوم، والمعارف، مما يُستخرج من النفوس والأرواح، ومما لا يعلمه إلا الله.
{وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} يقول الحق جلّ جلاله: {وآيةٌ لهم الليلُ نسْلَخُ منه النهارَ} نُخرج منه النهار، إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار. مستعار من: سلخ الجلد عن الشاة، أو: ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض، فيعري نفس الزمان، كشخص أسود، نزع عنه قميص أبيض؛ لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء: الظلمة، فاكتسى بعضه ضوء الشمس، كبيت مظلم أُسرج فيه، فإذا غاب السراج أظلم. {فإِذا هم مُّظلِمُونَ} داخلون في الظلام. {و} آية لهم أيضاً {الشمسُ تجري لمُسْتَقَرٍّ لها} لحدّ لها مؤقّت، تنتهي إليه من فَلكِها في آخر السنة. شبهت بمستقرّ المسافر إذا انتهى سفره، أو: لحدّ لها من مسيرها كلّ يوم في مرائي عيون الناس، وهو المغرب. وفي الحديث الصحيح من طريق أبي ذرٍّ: «إنها تسجد كل يوم تحت العرش، فتستأذن، فيُؤذن لها، ويوشك أن تستأذن فلا يُؤذن لها، فتَطلُعُ من مغربها»، ذرٍّ قال صلى الله عليه وسلم: «وذلك قوله: {والشمس تجري لمستقر لها}». وعن ابن عباس: أن الشمس بمنزلة السانية، تجري بالنهار في السماء في فلكها، فإذا غربت جرت في الليل تحت الأرض في فَلَكِها، حتى تطلع من مشرقها، وكذلك القمر. كذا نقل الكواشي عنه. ولعله لا يناقض ما جاء في الحديث، من أنها تسجد تحت العرش، لإحاطة العرش بالجميع، فهي حيث ما انتهت تحته. ونقل الأقليشي من حديث عكرمة، عن ابن عباس: (ما طلعت شمس حتى ينخسها سبعون ألف ملك، فيقولون لها: اطلعي، فتقول: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فيأتيها ملك من الله، فيأمرها بالطلوع، فتستقل بضياء بني آدم، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع، فتطلع بين قرينه، فيحرقه الله تعالى تحتها، وما غربت شمس قط إلا خرَّت لله ساجدة، فيأتيها شيطان، يُريد أن يصدها عن السجود، فتغرب بين قرنيه، فيحرقه الله تعالى، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ما طلعت شمس إلا بين قرنَي الشيطان، ولا غربت إلا بين قرنَي الشيطان» ه. على نقل شيخ شيوخنا الفاسي. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: «تجري لا مستقر لها»، ومعناها: إنها جارية أبداً، لا تثبت في مكان. وقراءة الجماعة أوفق بالحديث. {ذلك تقديرُ العزيزِ الحكيمِ} أي: ذلك الجري على ذلك التقدير البديع، والحساب الدقيق، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، العليم بكل معلوم. {والقمرَ قدَّرناه} من نصبه؛ فبِفِعْل مضمر، ومن رفعه؛ فمبتدأ، والخبر: {قدَّرناه منازلَ} وهي ثمانية وعشرون منزلاً: فرع الدلو المقدم، فرع الدلو المؤخر، بطن الحوت، النطْح، البُطَيْن، الثُّريَّا، الدَّبَران، الهَقْعَة، الهَنْعَة، الذِّراع، النَّثْرة، الصَّرْفَة، الجَبْهَة، الطَّرْفة، الزَّبرة، العَوَّاء، السِّمَاك، الغَفْر، الزَّبَاني، الإِكْليل، القَلْب، الشَّوْلة، النعَائِم، البَلَدة، سَعْدُ الذَّابح، سعد السُّعُود، سَعْد الأخبية، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاها، ولا يتقاصر عنها. على تقدير مستوٍ، يسيرُ فيها من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين، أو ليلة إذا نقص الشهر. ولا بد في {قدّرناه منازلَ} من تقدير مضاف؛ أي: قدّرنا سيره، أو نوره، فيزيد وينقص، إذ لا معنى لتقدير القمر منازل، فيكون «منازل» ظرفاً. فإذا كان في آخر منازله، دقّ وتقوّس، {حتى عادَ كَالعُرْجُون} أي: كالشّمراخ، وهو عنقود التمر إذا يبس واعوج. ووزنه فعلون، من الانعطاف، وهو الانعراج، {القديم} العتيق المُحْوِل، وإذا قُدم دقّ، وانحنى، واصفرّ، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه. {لا الشمسُ ينبغي لها} يصح ويستقيم لها {أن تُدرِكَ القَمَرَ} فتجتمع معه في وقتٍ واحد، وتداخله في سلطانه، فتطمس نوره قبل تمام وقته؛ لأن لكلِّ واحد من النيّرين سلطاناً على حياله، فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل. {ولا الليلُ سابقُ النهارِ} ولا يسبق الليل النهار، أي: آيةَ الليل لا تسبق آيةَ النهار، وهي النيّران. ولا يزال الأمرُ على هذا الترتيب إلى أن تقوم الساعة، فيجمع الله بين الشمس والقمر، ويُكوران ويُرميان في النار، {وكلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون} أي: وكلهم في فلك يسبحون؛ يسيرون؛ فالتنوين للعوض؛ والضمير للشمس والقمر؛ فإنَّ اختلاف الأحوال يُوجب تعدُّداً ما في الذات، أو: للكواكب؛ فإن ذكر النيرين مشعر بها {وكل في فلك يسبحون} يقرأ مقلوباً ومرتّباً، ففيه نوع من البديع. الإشارة: وآيةٌ لهم ليلُ الغفلة نسلخ منه نهارَ اليقظة، ونهارُ اليقظة، نسلخ منه ليلَ الغفلة، فلا يزال العبد بين غفلة ويقظة، حتى تُشرق عليه شمس العرفان، وتستقر في قلبه، فلا غروب لها، وإليه الإشارة بقول: {والشمس تجري لمستقرٍ لها}، ومستقرها: قلوب العارفين. وقمر الإيمان قدَّرناه منازل، ينقص ويزيد، بزيادة التفرُّع والتوجُّه ونقصانه، حتى تطلع عليه شمس العرفان، فينسخ نوره، فلا زيادة ولا نقصان. قال القشيري: فشبيهُ الشمس عارفٌ أبداً في ضياء معرفته، صاحبُ تمكينٍ، غيرُ مُتَلَوِّنٍ، شُرفَ في بروج سعادته قائماً، لا يأخذه كسوفٌ، ولا يستره سحابٌ. وشبيهُ القمر عبدٌ تلوّن أحوالُه في التنقُّل، صاحب تلوين، له من البسط ما يرقيه إلى حَدِّ الوصال، ثم يُرَدُّ إلى الفترة، ويقع في القبض مما كان فيه من صفاء الحال، فيتناقص، ويرجع إلى نقص أمره إلى أن يدفع قلبه عن وقته، ويجود عليه الحقُّ سبحانه، فيُوَفِّقُه لرجوعه عن فترته، وإفاقته من سَكَرتِهِ، فلا يزال تصفو أحواله، إلى أن يَقْرُبَ من الوصال، ويُرزقَ صفة الكمال، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال، كذلك حاله إلى أن يُحَقَّ له بالمقسوم ارتحاله، وأنشدوا: كُلَّ يومٍ تَتَلَونْ *** غيرُ هذا بِكَ أجمل
{وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} يقول الحق جلّ جلاله: {وآية لهم أنَّا حَمَلْنا ذُريتَهُم} أولادهم، الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم؛ فإن الذرية تقع عليهن؛ لأنهن مزارعها. وتخصيصهم؛ لأن استقرارهم في السفن أشق، وتماسكهم فيها أعجب، أو خصهم؛ لضعفهم عن السفر، فالنعمة فيهم أظهر. فحملناهم {في الفلك المشحونِ}: المملوء، والظاهر: أن الضمير في «ذريتهم» للجنس. كأنه قال: ذُريات جنسهم ونوعهم. قال ابن عباس وجماعة: يريد بالذُريَّات المحمولين: أصحابَ نوح في السفينة، ويريد بقوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}: السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، وإياها عنى بقوله: {وإن نشأ نُغرقهم...} الخ. وأما إطلاق الذرية على الآباء، فقال ابن عطية: لا يُعرف لغة، وإنما المراد بالذرية الجنس، أو حقيقة ما تقدّم. وعليه يكون قوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} يراد به الإبل؛ فإنها سفن العرب. {وإِن نشأ نُغْرِقُهم} إذا ركبوا سفن البحر، {فلا صَرِيخَ لهم} فلا مغيث، أو: لا مستغيث لهم، وهو أبلغ، أي: لم تبقَ لهم قدرة على الاستغاثة. {ولا هم يُنْقَذُونَ} ينجون من الموت، {إِلا رحمةً منا ومتاعاً إلى حينٍ} أي: لا ينقذون إلا لرحمة منا، لتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل. فهما مفعولان له. وقال بعضهم: الاستثناء راجع لثلاث جمل: «نغرقهم»، «فلا صريخ لهم»، «ولا هم يُنقذون». الإشارة: إذا عامت أفكار العارفين، في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، تلاطمت عليها أمواج الدهش من كبرياء الله، فإن سبق لها سابق عناية الاعتدال؛ أوت إلى سفينة الشريعة، بعد ركوبها في فلك الحقيقة، وإليه الإشارة في قوله: {حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}. وإن لم تسبق له عناية، غَرِقَ في بحر الزندقة والإلحاد، كما قال تعالى: {وإن نشأ نُغرقهم فلا صريخ لهم} من شيخ كامل، ولا هم يُنقذون إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين الكمال، فيعتدل. قال القشيري: الآية إشارة إلى حَمْلِ الخَلْقِ في سفينة السلامة، في بحار التقدير، عند تلاطم أمواجها، بفنونٍ من التغيير والتأثير، وكم من عبدٍ غرق في أشغاله، في ليله ونهاره، لا يستريح لحظةً في كَدِّ أفعاله، ومقاساة التعب من أعماله، وجَمْعِ ماله، بنسيان عاقبته ومآلِه. ثم قال في قوله تعالى: {وإِن نشأ نُغرقهم}: لولا صفة جُوده وفَضْله؛ لَحَلَّ بهم من البلاء ما حَلَّ بأمثالهم، لكنه لحُسْنِ إفضاله، حفظهم في جميع أحوالهم. ه.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} قلت: جواب «إذا» محذوف، أي: أعرضوا، فدلّ عليه قوله: «معرضين». يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذا قيل لهم} أي: كفار قريش: {اتقوا ما بين أيديكُم وما خلفَكُم} أي: ما تقدّم من ذنوبكم، وما تأخّر مما أنتم تعملونه بعدُ، أو: ما بين أيديكم: ما سلف من مثل الوقائع التي حلَّت بالأمم المكذبة قبلكم، وما خلفكم من أمر الساعة، أو: ما بين أيديكم من فتنة الدينا، وما خلفكم من عذاب الآخرة. {لعلكم تُرحمون} لتكونوا في رجاء رحمة الله، فإذا قيل لهم ذلك أعرضوا. قال تعالى: {وما تَأتيهم من آيةٍ من آيات ربهم} الدالة على وحدانيته تعالى، وصدق رسوله، {إِلا كانوا عنها معرضين} لا يلتفتون إليها، ولا يرفعون لها رأساً، ف «من» الأولى لتأكيد النفي، والثاني للتبعيض، أي: دأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة. {وإذا قيل لهم أَنفقوا مما رزقكم اللهُ} أي: تصدّقوا على الفقراء، {قال الذين كفروا} من مشركي مكة {للذين آمنوا أَنُطْعِمُ من لو يشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} عن ابن عباس رضي الله عنه: كان بمكة زنادقة، فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين، قالوا: لا والله، أيُفقره الله ونُطعمه نحن؟!. قيل: سبب الآية: أن قريشاً لَمّا أسلم ضعفاؤهم، قطعوا عنهم صِلاتهم، فندبهم بعضُ المؤمنين إلى ذلك، فقالوا تلك المقالة. وقيل: إن قريشاً شَحَّتْ بسبب أزمة نزلت بهم على المساكين، مؤمِنهم وكافرهم، فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين، فقالوا على سبيل الجهل: أَنُطعم قوماً أراد الله فقرهم وتعذيبهم. ومن أمثالهم: كن مع الله على المدبر، حتى كان الرجل يرعى إبله، فيجعل السِمَان في الخصب، والمهازيل في الجدب، فإذا قيل له في ذلك، قال: أُكرم ما أَكرم الله، وأُهين ما أهان الله. ويحتمل أن يكون قولهم ذلك استهزاءً، فكأنهم قالوا: لِمَ لا يرزقهم إلهك الذي تزعم. قال الكواشي: قد يتمسّك بهذه الآية بعضُ البخلاء، فيقول: لا أُعطي مَن حرمه الله. وليس هذا بصحيح؛ لأن الله تعالى أغنى وأفقر، وجعل للفقير جزءاً من مال الغني كما يشاء. وفي الإحياء: أن المراد بالصدقة وشرعها: التخلُّص من رذيلة البخل، وذكل نفع يعود على المتصدق، بإخراجه عن حب الدنيا، وتعلُّق قلبه بها، الصادّ عن الله، وهؤلاء لم يفهموا حكمة الله، فقالوا ما قالوا. ه. ثم قال: {إِن أنتم إِلا في ضلال مبين} في أمركم لنا بالنفقة، أو في غير ذلك من دينكم، أو: يكون من قول الله تعالى للكفرة. الإشارة: وإذا قيل للعامة: اتقوا ما بين أيديكم، من شدائد الدنيا، وما خلفكم، من أهوال الآخرة، لعلكم تُرحمون فيهما؛ فإن التقوى الكاملة تحفظ الرجل في حياته وبعد مماته، وربما يسري الحفظ إلى عقبه، كما هو مشاهد في عقب أولياء الله. أو: إذا قيل لهم: اتقوا خواطر التدبير فيما بين أيديكم؛ إذ ليس أمره بيدكم، فجُل ما تبنيه من التدبير تهدمه رياح التقدير، وخواطر التدبير، فيما سلف قبلكم، إذ فيه تحصيل الحاصل، وتعطيل الوقت بلا فائدة. {لعلكم تُرحمون} بمقام الرضا، وسكون القلب وراحته تحت مجاري القضاء، أعرضوا وانهمكوا في أودية الغفلة والخواطر. وما تأتيهم من آية دالة على وحدانيته تعالى، وانفراده بالخلق والتدبير، إلا كانوا عنها معرضين. قال القشيري: هذه صفة مَن سَيَّبَهم في أودية الخذلان، ووَسَمَهم بسِمَة الحرمان، وأصَمَّهم عن سماع الرُّشْد، وصَدَّهم بالخذلان عن سلوك القصد، فلا تأتيهم آيةٌ في الزَّجْرِ إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها، على دوام انقباضهم، وإذا أُمِرُوا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنَّ الله رازقُ الأنام، وإذا شاءَ نَظَرَ إليهم بالإِنعام. ه.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} يقول الحق جلّ جلاله: {ويقولون} استهزاء: {متى هذا الوعْدُ} أي: وعد البعث والقيامة {إِن كنتم صادقين} فيما تقولون. خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال تعالى: {ما ينظرون} ينتظرون {إِلا صيحةً واحدةً} هي: النفخة الأولى، {تأخذُهُم وهم يَخِصِّمُون} يختصمون، يخصم بعضهم بعضاً في المعاملات، لا يخطر ببالهم أمرها، فتأتيهم بغتة. وقرأ حمزة بسكون الخاء من: خصمه: إذا غلبه في الخصومة. وفتح الباقون، مع الاختلاس والنقل وعدمهما. {فلا يستطيعُون توصيةً} فلا يستطيعون أن يوصوا في أمورهم بشيء، {ولا إِلى أهلِهِم يَرجِعُون} ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم، بل يموتون حيث يسمعون الصيحة. {ونُفِخَ في الصُّور} النفخة الثانية، بعد خُلو الأرض أربعين سنة. والصور: القرن، أو: جمع صورة. {فإِذا هم من الأَجْدَاثِ} القبور {إِلى ربهم يَنْسِلُون} يُسرعون في المشي إلى المحشر. {قالوا يا ويلنا مَن بَعَثَنَا} مَن أنشرنا {من مَّرْقَدِنا} مضجعنا؟ قال مجاهد وأُبيّ بن كعب: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور، قالوا يا ويلنا مَن بعثنا؟ وأنكره ابن عطية، وقال: إنما هو استعارة، كما تقول في قتيل: هذا مرقده إلى يوم القيامة. فتقول الملائكة في جوابهم: {هذا ما وَعَدَ الرحمنُ وَصَدَقَ المرسلون} أو يقوله المؤمنون، أو: الكفار، يتذكرون ما سمعوه من الرسل، فيُجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضاً. و«ما»: مصدرية، أي: هذا وَعْدُ الرحمن وصِدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدْق. أو: موصولة، أي: هذا الذي وعده الرحمن والذي صَدَقه المرسلون، أي: والذي صدق فيه المرسلون. {إِن كانت} النفخة الأخيرة {إِلا صيحةً واحدةً فإِذا هم جميع لدينا مُحضَرُون} للحساب، ثم يقال لهم في ذلك اليوم: {فاليوم لا تُظلمُ نفسٌ شيئاً ولا تُجْزَونَ إِلا ما كنتم تعملون} من خير أو شر. الإشارة: إذا كبر يقين العبد صارت عنده الأمور المستقبلة واقعة، والآجلة عاجلة، فيستعد لها قبل هجومها، ويتأهّب للقائها قبل وقوعها، أولئك الأكياس، الذين نظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتمُّوا بآجالها، حين اغترّ الناس بعاجلها، كما في الحديث في صفة أولياء الله.
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} قلت: «سلام»: بدل من «ما» أو: خبر عن مضمر، أو: مبتدأ حُذف خبره، أي: من ذلك سلام، وهو أظهر؛ ليكون عاماً، أي: ولهم كل ما يتمنون، كقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] ومن جملة ذلك: {سلام قولاً من رب رحيم} فيوقف على «ما يدَّعون». و«قولاً»: منصوب على المصدر المحذوف، أي: يقال لهم «قولاً»، وقيل: على الاختصاص. يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ أَصحابَ الجنةِ اليومَ في شُغلٍ} بضم الغين وسكونها أي: في شغل لا يوصف؛ لِعظم بهجته وجماله. فالتنكير للتعظيم، وهو افتضاض الأبكار، على شط الأنهار، تحت الأشجار، أو سماع الأوتار في ضيافة الجبار. وعن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما قيل: يا رسول الله أَنُفْضِي إلى نسائنا في الجنة، كما نُفضي إليهن في الدنيا؟ قال: «نعم، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليُفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء» وعن أبي أمامة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: «نعم، بِذَكَرٍ لا يمَلُّ، وشهوة لا تنقطع، دحْماً دحْماً» قال في القاموس: دحمه كمنعه: دفعُه شديداً. وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً»، وفي رواية أبي الدرداء: «ليس في الجنة مَنِّي» وفي رواية: «بول أهل الجنة عرق يسيل تحت أقدامهم مِسكاً» وعن إبراهيم النخعي: جماع ما شئت، ولا ولد. ه. فإذا اشتهى الولد كان بلا وجع، فقد روى الحاكم والبيهقي عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد، كما يشتهي، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة» انظر البدور السافرة. قلت: والتحقيق أن شغل أهل الجنة مختلف، فمنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأشباح، من حور، وولدان، وأطعمة، وأشربة، على ما يشتهي، ومنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأرواح، كالنظر لوجه الله العظيم، ومشاهدة الحبيب، ومناجاة، ومكالمات، ومكاشفات، وترقيات في معاريج الأسرار كل ساعة. ومنهم مَن يُجمع له بين النعيمين، وسيأتي في الإشارة. وقوله تعالى: {فَاكِهُون} أي: متلذذون في النعمة، والفاكه والفكه: المتنعم، ومنه: الفكاهة؛ لأنه مما يتلذّذ به، وكذا الفاكهة. ثم قال تعالى: {هُمْ وأَزواجُهم في ظِلالٍ} جمع ظِل، وهو: الموضع الذي لا تقع عليه الشمس. وفي قراءة «ظُلَل» بالضم، جمع ظُلة، كبُرمة وبرام، وهو ما يسترك عن الشمس، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس، قال تعالى: {وَظِلًٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] {عَلَى الأَرَآئِكِ}: جمع أريكة، وهي السرير في الحَجَلة. فالأرائك: السرر المفروشة، بشرط أن تكون عليها الحَجلة، وإلا فليست بأريكة، والحَجَلة: ما يستر السرير من ثوب الحرير. وهم {متكئون} عليها كالملوك على الأسرّة. {لهم فيها فاكهة} كثيرة مما يشتهون. {ولهم ما يَدَّعُون} أي: كل ما يَدعونه يأتيهم فوراً، فوزنه: يفتعلون، من الدعاء، أو: ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح، من قولهم: ادَّع عليّ ما شئت، أي: تمنّه. وقال الفراء: هو من الدعوى، ولا يدّعون إلا ما يستَحقون. {سلام قولاً من ربٍّ رحيم} أي: من أهم ما يدعون: سلام يقال لهم قولاً من رب رحيم، بلا واسطة؛ مبالغة في تعظيمهم، وذلك غاية متمناهم، مضافاً لرؤيته، ومن مقتضى الرحمة: الإبقاء عليهم مع ذلك. قال القشيري: يسمعون كلامه وسلامَه بلا واسطة، وأكَّد بقوله: {قولاً}. وبقوله: {من ربٍّ رحيم} ليُعلم أنه ليس على لسان سفير، والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال التسليم عليهم، ليكمل لهم النعمة ه. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذْ سطع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة، فينظر إليهم، وينظرون إليه». ثم ذكر أهل البُعد والحجاب، فقال: {وامتازوا اليومَ أيها المجرمون} أي: انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حِدة، وذلك حين يُحشر المؤمنون، ويُساق بهم إلى الجنة. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار، يكون فيه، لا يَرى ولا يُرى أبداً. ه. الإشارة: إِنَّ أصحاب الجنة المعجَّلة لأوليائه، اليوم، في شُغُل كبير، لا تجدهم إلا مشتغلين بالله، بين شهود واستبصار، وتفكُّر واعتبار، في محل المشاهدة والمكالمة، والمناجاة والمساررة، أوقاتهم محفوظة، وحركاتهم وسكناتهم بالإخلاص ملحوظة، فهم في شغل شاغل عن الدنيا وأهلها، هم ومَن تعلّق بهم في ظلال الرضا، وبرد التسليم يرتادون، وفي مشاهدة وجه الحبيب يتنعّمون. قال القشيري: إن أصحاب الجنة اليوم، أي: طلابها، والساعون لها، والعاملون لنيلها، ولمثل ذلك فليعمل العاملون، فهم في الدنيا في طلب الجنة عن المنعِم بها، كما جاء في الحديث: «أكثر أهل الجنة البُلْه»، ومَن كان في الدنيا عن الدنيا حُرًّا، فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حُرًّا، «يختص برحمته من يشاء» قلت: فالبله هم أهل الحجاب، الذين يعبدون الله لطلب الجزاء، ويقنعون بالنعيم الحسي ثم قال: ويقال: الحقُّ تعالى لا يتعلَّق به حقٌّ ولا باطل، فلا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم، وبين شهودهم مولاهم، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته، بأي حالةٍ كانت. ولا يَقْدَحُ اشتغالهم باستيفاء حُظُوظِهم، في معارفهم. ه. مختصراً. قلت: وما في سورة الواقعة، من ذكر نعيم السابقين، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحُور والولدان، مع نعيم العيان والرضوان؛ لأنهم في الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة، ومعاينة أسرار الحقيقة. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {سلام قولاً من ربٍّ رحيم} قال ابن عطاء: السلام جليل عظيم الخطر، وأجّله خطراً ما كان وقت المشاهدة والمصافحة، حين يقول: سلام قولاً من رب رحيم. قال القشيري: الرحمة في ذلك الوقت أن يُبقهم في حال سماع السلام، أو حال اللقاء، لئلا تصحبهم دهشة، ولا تلحقهم حيرة. ه. وقال الورتجبي: سلام الله أزلي الأبد، غير منقطع عن عباده الصالحين، في الدنيا والآخرة، لكن في الجنة تُرفع عن آذانهم جميع الحجب، فسَمِعُوا كلامه، ونظروا إلى وجهه كفاحاً. ه. قلت: وقد يُرفع في دار الدنيا، فيسمع سلام الله على عباده، كما وقع لبعض الأولياء. قيل: وفي قوله: {رحيم} إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبداً، مع الإبقاء عليهم في حال السلام واللقاء، فلا تصحبهم دهشة، كما تقدّم. وقيل: الإشارة في الرحيمية: أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد، وإنما هو بالرحمة، فيكون للعاصي فيه نَفَسٌ ومساغ للرجاء. قاله المحشي. وقوله: {وامتازوا اليوم} إشارة إلى أن غيبة الرقيب من أتم النعمة، وإبعادَ العدوِّ من أجَلِّ العوارف، فالأولياءُ في إيجاب القربة، والأعداد في العذاب والحجبة. انظر القشيري.
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} يقول الحق جلّ جلاله، في توبيخ الكفرة يوم القيامة: {أَلَمْ أعهدْ إِليكم يا بني آدمَ ألا تعبدوا الشيطان إِنه لكم عدو مبين} يقال: عهِد إليه: إذا وصّاه. وهذا العهد إما على ألسنة الرسل، أو: يوم: {ألست بربكم}، أو: ما نصبه لهم من الحُجج العقلية، والدلائل السمعية، الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره. وعبادة الشيطان: طاعته فيما يُوسوس به إليهم، ويُزيِّنه لهم. {وأن اعبدوني}: عطف على {ألاَّ تعبدوا}، أي: عهدنا إليكم ألاَّ تُطيعوا الشيطان ووحّدوني، وأطيعوني، {هذا صراطٌ مستقيم} إشارة إلى ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان، وطاعة الرحمن، أي: هذا طريق بليغ في الاستقامة، لا طريق أقوم منه. وفيه إشارة إلى جنايتهم على أنفسهم بعد النصح التام، فلا حجة بعد الإعذار، ولا ظلم بعد التذكير والإنذار. {ولقد أضلَّ منكم جبلاً} أي: خلقاً {كثيراً} وفيه لغات مذكورة في كتب القراءات أي: ولقد أتلف الشيطان عن طريقي المستقيم خلقاً كثيراً، بأن أشركوا معي غيري، {أفلم تكونوا تعقِلون} قرّعهم على تركهم الانتفاع بالعقل، الذي ركّبه فيهم، حيث استعملوه فيما يضرهم، من تدبير حظوظهم وهواهم. {هذه جهنم التي كنتم تُوعدون} بها، {اصْلَوْها اليومَ بما كنتم تكفرون} أي: ادخلوا واحترقوا فيها، بكفركم وإنكاركم لها. {اليوم نَخْتِمُ على أفواهِهِم} أي: نمنعهم من الكلام، {وتُكلِّمُنا أيديهم وتشهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكسِبُون} يُروى: أنهم يجحدون، ويُخاصمون، فتشهد عليهم جيرانهم، وأهاليهم، وعشائرهم، فيحلفون: ما كانوا مشركين، فحينئذ يُختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: «يقول العبد يوم القيامة: إني لا أُجيزُ عليّ إلا شاهداً من نفسي، فيُخْتم على فِيهِ، ويُقال لأركانه: انْطِقي، فتنطِقُ بأعماله، ثم يُخَلِّي بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لكُنَّ، وسُحْقاً، فعنكُنّ كنت أُناضِلُ». الإشارة: كل مَن آثر حظوظه ومُناه، ولم يقدر على مجاهدة هواه، حتى مات محجوباً عن الله، يلحقه شيء من هذا التقريع. والصراط المستقيم: هو طريق التربية، التي توصِّل إلى الحضرة، التي قام ببيانها الأولياء العارفون بالله. ولقد أضلَّ الشيطانُ عنها خلقاً كثيراً، حملهم على طلب الدنيا والرئاسة والجاه، فلم يقدروا على التفرُّغ لذكر الله، ولم يحُطوا رؤوسهم لمَن يُعَرِّفهم بالله، فيُقال لهم: هذه نار القطيعة التي كنتم تُوعدون، إن بقيتم مع حظوظكم ورئاستكم، اصلوها اليوم بكفركم بطريق التربية، اليوم نختم على أفواههم، فلا مناجاة بينهم وبين حبيبهم، وتُكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم بلسان الحال أو المقال بما كانوا يكسبون من التقصير. قال القشيري: قوله: {وتُكلمنا أيديهم...} إلخ، فأمَّا الكفار فشهادةُ أعضائِهم عليهم مؤبدة، وأما العُصَاةُ من المؤمنين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان، ولكن تشهد عليهم بعض أعضائهم بالإحسان، وأنشدوا: بيني وبينك يا ظلومُ الموقِفُ *** والحاكم العَدْلُ، الجوادُ المُنْصِفُ وفي بعض الأخبار المرويةِ: أن عَبْداً شهدت أعضاؤه عليه بالزَّلَّة، فتطير شَعرة من جفن عينه، فتشهد له بالشهادة. فيقول الحق تعالى: يا شعرة جَفْنِ عبدي احتَجّي عن عبدي، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، وينادي منادٍ: هذا عتيقُ الله بشَعْرَة. ه.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} يقول الحق جلّ جلاله: {ولم نشاءُ لطَمَسْنَا على أعيُنِهِم} اليوم، أي: أعميناهم وأذهبنا أبصارهم. والطمس: سد شق العين حتى تعود ممسوخة. {فاستَبَقُوا الصِّرَاطَ} على حذف الجار، وإيصال الفعل، أي: فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه، وبادَروا إليه؛ لِما يلحقهم من الخوف، {فأنَّى يُبصرون} فكيف يُبصرون حينئذ من جهة سلوكهم، فيضلون في طريقهم عن بلوغ أملهم. {ولو نشاء لَمَسَخْناهم} قردة، وخنازير، أو حجارة، {على مكانتهم}: على منازلهم، وفي ديارهم، حيث يأمنون من المكاره. والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. {فما استطاعوا مُضيًّا ولا يرجِعُون} فلم يقدروا على ذهاب ومجيء، أو: مُضِياً أمامهم، ولا يرجعون خلفهم. والمعنى: أنهم لكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن نفعل بهم ذلك، لكنا لم نفعل؛ لشمول الرحمة لهم، واقتضاء الحكمة إمهالهم. {ومن نُعَمِّرْهُ} نُطِل عمره {نُنكِّسْهُ في الخلقِ} نقلبه فيه. وقرأ عاصم وحمزة بالتشديد. والنكس والتنكيس: جعل الشيء أعلاه أسفله. والمعنى: مَن أطلنا عمره نكَسنا خلقه، وهو نوع من المسخ، فصار بدل القوة ضعفاً، وبدل الشباب هرماً، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايدُ إلى أن يبلغ أشده، ويستكمل قوته، ويعْقل، ويعلم ما له وعليه، فإذا انتهى نكّسناه في الخلق، فجعلناه يتناقصُ حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبيّ، في ضعف جسده، وقلّة عقله، وخلوّه من العلم، كما ينكس السهم، فيجعل أعلاه أسفله. قال تعالى: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70]. قال ابن عباس: «مَن قرأ القرآن أي وعمل به لم يرد إلى أرذل العمر». {أفلا يعقلون} أنّ مَن قدر أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز، قادرٌ على أن يطمسَ على أعينهم، ويمسخهم على مكانتهم، ويبعثهم بعد الموت. الإشارة: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم، فلا يهتدون إلى طريق السلوك، ولا يسلكونها، فيبقوا في الحجاب على الدوام. ولو نشاء لمسخنا قلوبهم على مكانتهم، من رجاحة العقل والفهم، فلا يتدبّرون إلا في الأمور الحسية، فلا يستطيعون مُضيًّا في بلاد المعاني، ولا رجوعاً عن الحسيّات. ومَن نُعَمّره من هؤلاء نُنكّسْهُ في الخلق، فيلحقه الخرف والضعف، وأما مَن اهتدى إلى طريق السير، وسلك بلاد المعاني، فلا يزيده طول العمر إلا رجاحةً في العقل، وقوةً في العلم، وتمكيناً في المعاني والمعرفة. قال القشيري: ومَن نُعَمِّرْهُ ننكِّسْه في الخلق: نرده إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة، يأخذ في النقصان، إلى أن يبلغَ أرذلَ العُمر، فيصير إلى مثل حال الطفولية من الضعف، ثم لا يبقى بعد النقصان شيءٌ، كما أنشدوا: طوى العصران ما نشراه مني *** فأبلى جدتي نشرٌ وطي أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ *** ولا يبقى مع النقصان شي وهذا في الجثة والمباني، دون الأحوال والمعاني، فإن الأحوال في حق الجثة في الزيادة إلى بلوغ حَد الخَرَفِ، فيَخْتَلُّ رأيُه وعَقْلُه. وأصحاب الحقائق تشيب ذوائبُهم، ولكنَّ محابَّهم ومعانيَهم في عنفوان شبابها، وطراوة جدَّتها. ه.
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} يقول الحق جلّ جلاله: {وما علَّمناه الشِّعْرَ} أي: وما علّمنا نبينا محمداً الشعر، حتى يقدر أن يقول شعراً، فيُتهم على القرآن، أو: وما علّمناه بتعلُّم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر، فإنه غير مقفّى ولا موزون، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه؟ وأين التقفيه؟ فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء، {وما ينبغي له} أي: وما يليق بحاله، ولا يتأتى له لو طلبه، أي: جعلناه بحيث لو أراد قَرْضَ الشعر لم يتأتّ له، ولم يسهل، كما جعلناه أُميًّا لم يهتدِ إلى الخط؛ لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»، وقوله: «هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصبعٌ دَمِيتِ، وفِي سَبِيلِ الله ما لَقِيتِ»، فهو مما اتفق وزنه من غير قصد، كما يتفق في خطاب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم، ولا يسمى شعراً إلا ما قصد وزنه. ولَمَّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر، قال: {إِن هو إِلا ذِكْرٌ} أي: ما الذي يُعلِّم ويقوله إلا ذكر من الله، يُوعظ به الإنس والجن، {وقرآنٌ} أي: كتاب سماوي، يُقرأ في المحاريب، ويُتلى في المتعبّدات، ويُنال بتلاوته والعملِ به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر، الذي هو من همزات الشيطان؟!. أنزلناه إليك {لتُنذر به} يا محمد، أو: لينذر القرآن {من كان حَيًّا} بالإيمان، أو عاقلاً متأملاً؛ فإن الغافل كالميت، أو: مَن سبق في علم الله أن يحيى؛ فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به؛ لأنه المنتفع به، {ويَحِقَّ القولُ} أي: تجب كلمة العذاب {على الكافرين} المُصرِّين على الكفر، وجعلهم في مقابلة مَن كان حَيًّا إشعار بأنهم بكفرهم في حكم الأموات، كقوله: {ومَآ أَنتَ بِمُسْمَعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} [فاطر: 22]. الإشارة: أما النبي عليه الصلاة والسلام فنفى الله عنه صنعة الشِّعر، والقوة عليه، لئلا يُتهم فيما يقوله، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه، ويصرف ذلك في أمداح الخمرة الأزلية، والحضرة القدسية، أو في الحضرة النبوية، وينالون بذلك تقريباً، ورتبة كبيرة، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «لأنْ يمتَلىءَ جَوْفُ أحدِكم قَيْحاً يَرِيهُ خَيرٌ من أن يمتَلىء شِعْراً» فالمراد به شعر الهوى، الذي يشغل عن ذكر الله، أو يصرف القلب عن حضرة الله. قيل لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشعر؟ فقالت: لم يتمثّل بشيء من الشعر إلا بيت طرفة، أخي بني قيس: سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ ما كُنتَ جاهلاً *** وَيَأتِيكَ بالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ وربما عكسه فقال: «ويأتيك مَن لم تزود بالأخبار». وبالله التوفيق.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)} يقول الحق جلّ جلاله: {أَوَ لَم يَرَوا} أي: أعموا ولم يعلموا {أَنا خلقْنا لهم مما عَمِلَت أيدينا} أي: أظهرته قدرتنا، ولم يقدر على إحداثه غيرُنا. وذِكْر الأيدي، وإسناد العمل إليها، استعارة، تُفيد مبالغة في الاختصاص والتفرُّد بالإيجاد، {أنعاماً} خصَّها بالذكر؛ لِمَا فيها من بدائع الحكمة والمنافع الجمة. {فهم لها مالكون} أي: خلقناها لأجلهم، فملكناها إياهم، فهم يتصرفون فيها تصرُّف المالك، مختصُّون بالانتفاع بها. أو: فهم لها حافظون قاهرون. {وذَلَّلناها لهم} وصيَّرناها منقادة لهم. وإلا فمَن كان يقدر عليها لولا تذليلُه وتسخيره لها. وبهذا أمر الراكب أن يشكر هذه النعمة، ويسبح بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {فمنها رَكوبهم} أي: مركوبهم، وهو ما يُركب منها، وقرىء بضم الراء، أي: ذو ركوبهم. أو: فمن منافعها ركوبهم. {ومنها يأكلون} ما يأكلون لحمه، أي: سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. {ولهم فيها منافعُ} من الجلود، والأوبار، والأصواف، وغير ذلك، {ومشَارِبُ} من اللبن، على تلوُّنه من المضروب وغيره، وهو جمع: مشرب، بمعنى: موضع الشرب. أو: المصدر، أي: الشرب. {أفلا يشكرون} نِعَم الله في ذلك؟ إذ لولا إيجاده لها ما أمكن الانتفاع بها. الإشارة: قوم نظروا إلى ما منَّ الله إليهم من المبرة والإكرام، فانقادوا إليه بملاطفة الإحسان، فعرفوا المنعِّم، وشكروا الواحد المنّان، فسخّر لهم الكون وما فيه، وقوم لم ينجع فيهم سوابغ النعم، فسلّط عليهم المصائب والنقم، فانقادوا إليه قهراً بسلاسل الامتحان، «عَجِبَ ربك من قوم يُساقون إلى الجنة بالسلاسل»، وكل هؤلاء سبقت لهم من الله العناية. وقوم لم ينجح فيهم نِعَمٌ ولا نِقَم، قد سبق لهم الخذلان، فأصرُّوا على العصيان، ولم يشكروا الله على ما أسدى من سوابغ الإحسان.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)} يقول الحق جلّ جلاله: {واتخذوا من دون الله آلهةٌ} أشركوها معه في العبادة، بعدما رأوا منه تلك القدرة الباهرة، والنعم المتظاهرة، وتحقّقوا أنه المنفرد بها، فعبدوا الأصنام، {لعلهم يُنصَرُون} بها إذا حزبهم أمْرٌ. والأمر بالعكس، {لا يستطيعون نَصْرَهم} أبداً، {وهم لهم} أي: الكفار للأصنام {جُندٌ} أي: أعوان وشيعة {مُحْضَرُونَ} يخدمونهم، ويذبّون عنهم، ويعكفون على عبادتهم، أو: اتخذوهم لينصروهم عند الله، ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهّموا، فهم يوم القيامة جند معدّون لهم، محضرون لعذابهم؛ لأنهم يجعلون وقوداً للنار، التي يحترقون بها. ثم سلّى نبيه مما يسمع بقوله: {فلا يَحْزُنك قَولُهم} فلا يُهمنَّك تكذيبهم، وأذاهم وما تسمع منهم من الإشراك والإلحاد. {إِنا نعلم ما يُسِرُّون} من عداوتهم وكفرهم، {وما يُعلِنُون} فيجازيهم عليه، فحقّ مثلك أن يتسلّى بهذا الوعيد، ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة، حتى ينقشع عنهم الهمّ، ولا يرهقه حزن. وهو تعليل للنهي على طريق الاستئناف، ولذلك لو قُرىء «أنّا» بالفتح، على حذف لام التعليل، لجاز، خلافاً لمَن أنكره وأبطل صلاة مَن قرأ به. انظر النسفي. الإشارة: كل مَن ركن إلى شيء دون الله، فهو في حقه صنم، كائناً ما كان، عِلماً، أو عملاً، أو حالاً، أو غير ذلك. ولذلك قال القطب ابن مشيش لأبي حسن الشاذلي رضي الله عنهما لَمَّا قال: بِمَ تلقى الله يا أبا الحسن؟ فقال له: بفقري، قال: إذاً تلقاه بالصنم الأعظم، أي: وإنما يلقى الله بالله، ويغيب عما سواه. وقوله تعالى: {فلا يحزنك قولهم} فيه تسلية لمَن أُوذي في جانب الله. قال القشيري: إذا عَلِمَ العبدُ أنه بمرأىً من الحق، هان عليه ما يقاسيه، لا سيما إذا كان في الله. ه.
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} يقول الحق جلّ جلاله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسانُ أَنَّا خَلقناه من نُطفةٍ} مَذِرة، خارجة من الإحليل، الذي هو قناة النجاسة، {فإِذا هو خَصِيم مبين} بيّن الخصومة، أي: فهو على مهانة أصله، ودناءة أوله، يتصدّى لمخاصمة ربه، ويُنكر قدرته على إحياء الميت بعدما رمّت عظامه. وهي تسلية ثانية له صلى الله عليه وسلم، وتهوين ما يقولونه في جانب الحشر، وهو توبيخ بليغ؛ حيث عجّب منه، وجعله إفراطاً في الخصومة بيّناً فيها. رُوي أن أَبيّ بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ، ففتَّه بيده، وقال: يا محمد؛ أتُرى الله يحيي هذا بعدما رمّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» فنزلت الآية. {وضَرَبَ لنا مثلاً} أمراً عجيباً، بأن جَعَلنا مثل الخلق العاجزين، فنعجز عما عجزوا عنه؛ من إحياء الموتى، {ونَسِيَ خَلْقَه} من المنيّ المهين، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و«خلقه»: مصدر مضاف للمفعول، أي: خلقنا إياه، {قال مَن يحيي العظامَ وهي رميمٌ} بالٍ مفتت، وهو اسم لما بَلِيَ من العظام، لا صفة، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبراً لمؤنث، وقيل: صفة بمعنى مفعول، من: رممته، فيكون كقتيل وجريح. وفيه دليل على أن العظم تحله الحياة، فإذا مات صار نجساً، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تحلّه الحياة، فهو طاهر كالشعر والعصب. {قُل يُحْييها الذي أنشأها} خلقها {أولَ مرة} أي: ابتداء، {وهو بكل خَلْقٍ} مخلوق {عليمٌ} لا يخفى عليه أجزاؤه، وإن تفرقت في البر أو البحر، فيجمعه، ويُعيده كما كان. ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله: {الذي جعل لكم من الشَّجَرِ الأخضر} كالمَرْخ والعَفَار، {ناراً فإِذا أنتم منه تُوقِدُون} تقدحون، ولا تشكون أنها نار خرجت منه، فمَن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائية، المضادة للنار، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس، وهي الزناد عند العرب، وأكثرها من المَرْخ والعَفار، وفي أمثالهم: «في كلّ شجر نار، واستمجد المرخُ والعفار» أي: استكثر في هذين الصنفين. وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السوَاكين، وهما خضراوان، يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهي أنثى فينقدح النار بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار، إلا العناب؛ لمصلحة الدقّ للثياب. والمرخُ ككتف: شجر سريع الورى. قاله في الصحاح. وهو المسمى عندنا بالكُلخ. وفي القاموس: عَفار كسحاب: شجر يتخذ منه الزناد. قال ابن عطية: النار موجودة في كل عود، غير أنها في المتحلحَل، المفتوح المسام، أوجد، وكذلك هو المَرْخ والعَفار. ه. {أَوَليس الذي خلق السماواتِ والأرضَ} مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما {بقادرٍ على أن يَخْلُقَ مِثْلَهم} مثل أجسامهم في الصِّغر والحقارة، بالإضافة إلى السموات والأرض، أو: أن يعيدهم مثل ما كانوا عليه في الذات والصفات؛ لأن المعاد مثل المبْدأ، بل أسهل، {بَلى} أي: قُل: بَلى هو قادر على ذلك، {وهو الخلاَّقُ} كثير الخلق والاختراع، {العليمُ} بأحوال خلقه، أو: كثير المخلوقات والمعلومات. {إِنما أمْرُهُ} شأنه {إِذا أراد شيئاً} بكونه {أن يقولَ له كُن فيكون} فيحدث، أي: فهو كائن موجود، لا محالة. وهو تمثيل لتأثير قدرته في الأشياء، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور، من غير امتناع وتوقف، من غير أن يحتاج إلى كاف ولا نون، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد، كأنه يقول: كما لا يثقل عليكم قول «كن»، فكذلك لا يصعب على الله إنشاؤكم وإعادتكم. قال الكواشي: ثم أومأ إلى كيفية خلقه الأشياء المختلفة في الزمان المتحد، وذلك ممتنع على غيره، فقال: {إِنما أمره...} الآية، فيحدث من غير توقف، فمَن رفع «فيكونُ»، فلأنه جملة من مبتدأ وخبر، أي: فهو يكون. ومَن نصب فللعطف على «يقول». والمعنى: أنه ليس ممن يلحقه نصَب ولا مشقة، ولا يتعاظمه أمر، بل إيجاد المعدومات، وإعدام الموجودات، عليه أسرع من لمح البصر ه. {فسبحان} تنزيهاً له مما وصفه به المشركون، وتعجيب مما قالوا، {الذي بيده ملكوتُ} أي: ملك {كُلِّ شيءٍ} والتصرُّف فيه على الإطلاق. وزيادة الواو والتاء؛ للمبالغة، أي: مالك كلّ شيء، {وإِليه تُرجَعُون} بالبعث للجزاء والحساب. الإشارة: أَوَلَمْ ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفة مهينة، فإذا هو خصيم لنا في تدبيرنا واختيارنا، ويُنازعنا في مُرادنا من خلقنا، ومرادنا منهم: ما هم عليه. فاستحي أيها الإنسان أن تُخاصم الله في حكمه، أو تنازعه في تقديره وتدبيره، وسلِّم الأمور لمَن بيده الخلق والأمر. بكى بعضُ الصالحين أربعين سنة على ذنب أذنبه. قيل له: وما هو؟ قال: (قلت لشيء كان: ليته لم يكن). فارْضَ بما يختاره الحق لك، جلاليًّا كان أو جماليًّا ولا تختر من أمرك شيئاً، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وكل مَن اهتم بأمر نفسه، واشتغل بتدبير شؤونها، فقد ضرب لله مثلاً، بأن أشرك نفسه معه، ونَسِي خلقه، ولو فكر في ضعف أصله، وحاله، لاستحيا أن يُدبِّر لنفسه مع ربه، وفي الإشارات عن الله تعالى: أيها العبد لو أَذِنْتُ لك أن تدبر لنفسك لكنت تستحيي مني أن تدبر لها، فكيف وقد نهيتك عن الندية!. وكما قَدَرَ على إحياء العظام الرميمة، يَقْدر على إحياء القلوب الميتة، ومَن قَدَرَ على استخراج النار من محل الماء، يقدر على استخراج العلم من الجهل، واليقظة من الغفلة، ومَن كان أمره بين الكاف والنون، بل أسرع من لحظ العيون، ينبغي أن يُرجع إليه في جميع الشؤون. قال القشيري: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، فلا يحدث شيء قلَّ أو كثر إلا بإبداعه وإنشائه، ولا يبقى منها شيء إلا بإبقائه، فمنه ظهر ما يحدث، وإليه يصير ما يخلق. ه. قال النسفي: قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ يس يريد بها وجه الله غفر اللهُ له، وأُعطي من الأجر كمَن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة» وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه، وسلَم.
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} يقول الحق جلّ جلاله: {والصافات صفاً فالزاجرات زَجْراً فالتاليات ذكراً} أقسم بطوائف الملائكة، الصافِّين أقدامهم في مراتب العبادة، كل على ما أمر به، فالزاجرات السحاب سوقاً إلى ما أراد الله، أو: عن المعاصي بإلهام الخير. أو: الشياطين عن التعرُّض لهم. {فالتاليات ذكراً} لكلام الله تعالى من الكتب المنزلة وغيرها، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وفيه رد على ابن الصلاح، حيث قال في فتاويه: إن الملائكة لا تقرأ القرآن، وإنما قراءته كرامة أكرم الله بها البشر. قال: فقد ورد أن الملائكة لم تُعط ذلك، فهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس، كما نقله عنه في الإتقان، فانظره. أو: بنفوس العلماء والعمال، الصافات أقدامها في التهجُّد وسائر الصلوات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدراسات شرائعه. أو: بنفوس الغزاة في سبيل الله، التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر مع ذلك، لا يشغلهم عنه مبارزة العدو. و{صفاً}: مصدر مؤكد، وكذلك {زجراً}، والفاء تدلُّ على الترتيب، فتفيد فضل المتقدم على المتأخر، فتفيد الفضل للصف، ثم للزجر، ثم للتلاوة، أو بالعكس. وجواب القسم: {إِنَّ إِلهكم لواحدٌ} لا شريك معه يستحق أن يُعبد، {وربُّ السماواتِ والأرضِ} وهو خبر بعد خبر، أو: خبر عن مضمر، أي: هو {ربُّ السماوات والأرض وما بينهما وربُّ المشارق} أي: مطالع الشمس، وهي ثلاث مائة وستون مشرقاً، وكذلك المغارب. تُشرق الشمس كلّ يوم في مشرق منها، وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وأما: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] فإنه أريد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وأما: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل: 9] فإنه أريد به الجهة، فالمشرق جهة، والمغرب جهة. قال الكواشي: لم يذكر المغارب؛ لأن المشارق تدل عليها. {إِنا زَيَّنا السماءَ الدنيا} القُربى منكم، تأنيث الأدنى، {بزينة الكواكب} بالإضافة، أي: بأن زينتها الكواكب ومَن قرأ بالتنوين والخفض فبدل، أي: هي الكواكب، ومَن قرأ بالنصب فعلى إضمار «أعني»، أو: بدل من محل «بزينة» أي: زيَّنَّا الكواكب، أو: على إعمال المصدر منوناً في المفعول، أي: بتزيُّن الكواكب. قال البيضاوي: وركوز الثوابت في الكُوة الثامنة، وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينهما وبين سماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة، متلألئة على سطحها الأزرق. ه. {وحِفْظاً} من الشياطين، كما قال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلْشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] أو: بإضمار فعله، أي: حفظناها حفظاً {من كل شيطانٍ ماردٍ} خارج عن الطاعة، فيُرمي بالشهب. {لا يسَّمَّعون إِلى الملأ الأعلى}: استئناف؛ لبيان حالهم، بعد بيان حفظ السماء منهم، ولا يجوز وصفه لكل شيطان؛ لأنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. والضمير لكلٍّ باعتبار المعنى؛ لأنه في معنى شياطين، وتعدية {يسمعون} بإلى لتضمُّنه معنى الإصغاء؛ مبالغة في نفيه، وتهويلاً لما يمنعهم عنه. ومَن قرأ بالتشديد فأصله: «يتَسمَّعون» فأدغم. والتسمُّع: طلب السماع. يقال: تسمّع فسمع أو لم يسمع إذا منعه مانع. والملأ الأعلى هم: الملائكة؛ لأنهم في السموات العُلى، والإنس والجن هم الملأ الأسفل؛ لأنهم سكان الأرض {ويُقْذَفُون} يُرمون بالشُهب، {مِن كل جانبٍ} من جميع جوانب السماء، من أيّ جهة صعدوا للاستراق. {دُحُوراً} مفعول له، أي: ويُقذفون للدحور، وهو الطرد، أو: مدحورين، على الحال، أو: لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى، فيكون مصدراً له، فكأنه قيل: ويُقذفون قذفاً، {ولهم عذابٌ} آخر {واصبٌ} دائم، أو شديد، وهو عذاب الآخرة، أو: عذاب الدنيا؛ لأنه دائم الوجوب؛ لأنهم في الدنيا مرجمون بالشهب دائماً، {إِلا مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ} «مَنْ»: بدل من ضمير «يسمعون»، أي: لا يتسمّع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الخطفةَ، أي: اختلس شيئاً من كلام الملائكة بسرعة، {فَأَتْبَعه شِهَابٌ ثاقبٌ} أي: نجم مضيء يثقبه، أو يحرقه، أو يخبله، ومنه تكون الغيلان. والله تعالى أعلم. الإشارة: أقسم الحق تعالى بصفوف الذاكرين، الزاجرين للخواطر عن قلوبهم، في طلب الحضور، التالين لذكر ربهم لرفع الستور، إنه منفرد في ألوهيته، متوحِّد في ربوبيته؛ إذ هو ربُّ كل شيء، ربُّ سموات الأرواح، وربُّ أرض النفوس والأشباح، وربُّ مشارق أنوار العرفان، وهي قلوب أهل العيان، ولم يذكر المغارب؛ لأن شمس القلوب إذا طلعت ليس لها مغيب. قوله تعالى: {إِنا زَيَّنا السماءَ الدنيا...} إلخ، قال القشيري: زيَّن السماء بالنجوم، وزيَّن قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال. ه. وقوله تعالى: {وحِفظاً من كل شيطان مارد} قال القشيري: كذلك حفظ القلوب بأنوار التوحيد، فإذا قَرُبَ منها الشيطان رَجَمَهَا بنجوم معارفهم، إلا مَن خَطِفَ الخطفة، كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يُلْقِيَ شيئاً من وساوسه؛ تَذَكَّروا، فإذا هم مُبْصِرون. ه. وقال في لطائف المنن: إن الله تعالى إذ تولى وليًّا صان قلبه من الأغيار، وحرسه بدوام الأنوار، حتى لقد قال بعض العارفين: إذا كان سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشُّهب؛ كي لا يسترق السمع منها، فقلبُ المؤمن أولى بذلك، لقول الله سبحانه، فيما يحكيه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن» ه. والمراد: المؤمن الكامل، الذي تولّى الله حفظه، وهو الولي العارف.
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} يقول الحق جلّ جلاله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: فاستخبر كفّار مكّة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أي: أقوى خلقاً وأعظم، أو: أصعب خلقاً وأشقه. {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} يعني ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب، والشُهب الثواقب؟ وجيء ب «مَنْ» تغليباً للعقلاء. ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ: (أم من عددنا) بالتشديد والتخفيف. والقصد: الرد على منكري البعث، فإنَّ مَن قدرَ على خلق هذه العوالم، على عظمها، كان على بعثهم أقدر. ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله: {إِنا خلقناهم من طين لازب} لاصق باليد، أو: لازم. وقرىء به، أي: يلزم مَن جاوره ويلصق به. وهذا شاهد عليهم بالضعف؛ لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة. أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خُلقوا منه إنما هو تراب، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقاً آخر؟ حيث قالوا: «أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً» [الرعد: 5]، الخ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعدُ؛ من ذكر إنكارهم البعث. {بل عَجِبْتَ} من تكذيبهم إيَّاك، وإنكارهم البعث، {ويَسْخَرون} هم منك، ومن تعجُّبك، أو: مِن أمر البعث، قال الكواشي: ولَمَّا لم تؤثِّر فيهم البراهين، أَمَرَ نبيَّه عليه الصلاة والسلام بالإضراب عنهم، والإعجاب منهم، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث، والمعنى: إنك تعجبت من تكذيبهم، وهم يسخرون منك ومن تعجُّبك. ه. قال قتادة: لَمَّا نزل القرآنُ عجب منه النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به، فلما سَمِعَه المشركون، ولم يؤمنوا، وسخروا، تعجَّب من ذلك. ه. وذكر ابن عطية وغيره: أن الآية نزلت في رُكانة، الذي صرعه صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن عبد البر: أنه أسلم يوم الفتح. ه. وقرأ الأخوان «عجبتُ» بضم التاء، أي: استعظمت. والعجَبُ: روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء؛ لخفاء سببه، وهو في حقه تعالى مُحال، ومعناه: التعجُّب لغيره، أي: كل مَن يرى حالهم يقول: عجبت، ونحوه: قوله صلى الله عليه وسلم: «عجب الله من شاب ليست له صبوة» وهو عبارة عما يُظهره الله في جانب المتعجب منه، من التعظيم أو التحقير، أو: قل يا محمد: عجبتُ ويسخرون. {وإِذا ذُكِّروا لا يذْكُرون} أي: ودأبهم أنهم إذا وُعظوا بشيء لا يتعظون به. {وإِذا رَأَوْا آيةً} معجزة، كانشقاق القمر، ونحوه، {يَسْتَسْخِرُونَ} يُبالغون في السخرية، ويقولون: إنه سحر، ويستدعي بعضهم بعضاً أن يسخر منها، {وقالوا إِن هذا} ما هذا {إِلا سحر مبينٌ} ظاهر سحريته، {أَإِذَا مِتنا وكنا تُراباً وعظاماً أئِنا لمبعُوثُون} أي: أَنُبعث إذا كنا تُراباً وعظاماً؟ {أوَ آبَاؤُنا الأولون} فمن فتح الواو عطف على محلّ «إِنّ» واسمها، والهمزة للإنكار، أي: أَوَيُبعث أيضاً آباؤنا الأولون الأقدمون، على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبْعد وأبطل. ومَن سَكَّن فَمِنْ عطفِ أحد الشيئين، أي: أيُبعث واحد منا، على المبالغة في الإنكار. {قُلْ نَعَم} تُبعثون {وأنتم داخرون} صاغرون. {فإِنما هي زَجْرَةٌ واحدة} أي: صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية، والفاء: جواب شرط مقدر، أي: إذا كان كذلك فما هي إلا صيحة واحدة، وهي مبهمة، يُفسرها خبرها. أو: فإنما البعثة زجرة واحدة. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبلَ والغنمَ: إذا صاح عليها، {فإِذا هم} أحياء {ينظرون} إلى سوء أعمالهم، أو: ينظرون ما يحلُّ بهم. {وقالوا يا ويلنا} الويل: كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، {هذا يومُ الدينِ} اليوم الذي يُدانُ فيه العباد، ويُجازون بأعمالهم. {هذا يومُ الفصلِ} أي: يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلالة، {الذي كنتم به تُكذِّبون} يحتمل أن يكون قوله: {هذا يوم الدين} من كلام الكفرة، بعضهم مع بعض، وأن يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون {يا ويلنا هذا يوم الدين} من كلام الكفرة، وما بعده كلام الملائكة، جواباً لهم. والله تعالى أعلم. الإشارة: الإنسان فيه عالَمان، عالَم في غاية الضعف والخِسة، وهي بشريته الطينية، أصلها من ماء مهين. وعالَم في غاية القوة والكمال، وهي روحانيته السماوية النوارنية، فإذا حييت الروح بالعلم بالله، واستولت على البشرية، استيلاء النار على الفَحمة، أكسبتها القوة والشرف، وإذا ماتت الروح بالغفلة والجهل، واستولت عليه البشرية أكسبتها الضعف والذل، والعارف الكامل هو الذي ينزل كل شيء في محله، فينزل الضعف في ظاهره، والقوة في باطنه، فظاهره يمتد من الوجود بأسره، وباطنه يمُد الوجود بأسره. فمَن نظر إلى أصل ظاهره تواضع وعرف قدره، ولذلك قال سيدنا علي كرّم الله وجهه: ما لابن آدم والفخر، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وفيما بينهما يحمل العذرة. ه. ومَن نظر إلى باطنه تاه على الوجود بأسره، لكن من آداب العبد: ألا يُظهر بين يدي سيده إلا ما يناسب العبودية، من الضعف، والذل، والفقر، فإذا تحقّق بوصفه مدَّه اللهُ بوصفه. وبالله التوفيق.
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)} يقول الحق جلّ جلاله للملائكة يوم القيامة: {احْشُرُوا الذين ظلموا} أي: اجمعوا الذين كفروا {وأزواجَهم} وأَشباهَهم، فيُحشر عابد الصنم مع عبدة الأصنام، وعابد الكواكب مع عبدتها. أو: نساءهم الكافرات، أو: قرناءهم من الشياطين. و«الواو» بمعنى «مع»، أو: عاطفة. {وما كانوا يعبدون من دون الله} أي: الأصنام، اجمعوها معهم، {فاهْدُوهم إلى صراطِ الجحيم} أي: دُلوهم على طريقها، وعرّفوهم بها. وعن الأصمعي: يقال: هديته في الدين هُدى، وهديته الطريق هداية. {وقِفُوهُم}: احبسوهم {إِنهم مسؤولون} عن أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم، {ما لكم لا تَنَاصَرُون} لا ينصر بعضكم بعضاً. وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر، بعدما كانوا يتناصرون في الدنيا، أو: استهزاء بهم. وقيل: هو جواب لأبي جهل، حيث قال يوم بدر: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44]، وجملة النفي: حال، أي: ما لكم غير متناصرين، {بل هم اليوم مسْتَسْلِمون} منقادون لِما يُراد بهم؛ لعجزهم؛ وانْسِدَادِ أبواب الحيل عليهم، أو: قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله. {وأقْبَل بعضُهم على بعضٍ} أي: التابع على المتبوع {يتساءلون} يتخاصمون، ويسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتسخُّط، {قالوا} أي: الأتباع للمتبوعين: {إِنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} أي: تصدوننا عن الحق والإيمان، قاله الحسن. وبيانه: أن العرب كانت تتيمّن بالسانح عن اليمين من الطير، ويناسبه ما ذكره ابن عطية في جملة التأويلات بقوله: ومنها: أن يريد باليمين اليمْن، أي: تأتوننا من جهة النصائح، والعمل الذي يتيمّن به. ه. قلت: والأحسن: أن يقدر معلق الجار، أي: تأتوننا وتصرفوننا عن طريق أهل اليمين. {قالوا} أي: الرؤساء: {بل لم تكونوا مؤمنين} أي: بل أنتم أبيتم الإيمان، وأعرضتم عنه مع تمكُّنكم منه، مختارين للكفر، غير ملجئين إليه، أو: بل أنتم سبقت منكم الضلالة على إغوائنا، وإنما نشأ عن إغوائنا دوام كُفركم لا استئنافه. {وما كان لنا عليكم من سلطانٍ} وقهر، نسلبكم به تمكُّنكم واختياركم، {بل كنتم قوماً طاغين} أي: بل كنتم قوماً مختارين للطغيان، {فحقَّ علينا} أي: لزمنا جميعاً {قولُ ربِّنا إِنا لذائقون} يعني: حقت علينا كلمتُه بأنا ذائقون لعذابه. ولو حكى الوعيد على ما هو لقال: إنكم لذائقون، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم؛ لأنهم يتكلّمون بذلك على أنفسهم. ثم قالوا لضعفائهم: {فأغويناكم} فدعوناكم إلى الغي {إِنا كنا غَاوِينَ} فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا، {فإِنهم} أي: الأتباع والمتبوعين جميعاً، {في العذاب يومئذٍ مشترِكون} كما كانوا مشتركين في الغواية. {إِنا كذلك نفعل بالمجرمين} المشركين، أي: مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم. الإشارة: ويقال على طريق العكس: احْشُروا الذين أحسنوا واتقوا ربهم، وأزواجهم، ومَن انتسب إليهم، فاهدوهم إلى طريق الجنان، وقِفوهم يشفعوا فيمن تعلّق بهم، إنهم مسؤولون عن أصحابهم وعشائرهم، حتى يخلصوهم من ورطة الحساب. ما لكم لا تناصرون، فينصر بعضكم بعضاً في هذا الموطن الهائل، بل هم اليوم منقادون لأمر الله، حتى يأذن لهم في الشفاعة. وفي الحديث: «اتَّخِذُوا يداً عند الفقراءِ، فإن لهم دَوْلَة يومَ القيامة» ودولتهم: الشفاعة فيمن أحبهم وأحسن إليهم. والفقراء هم المتوجهون إلى الله تعالى، حتى وصلوا إلى حضرته، ومَن صَدّ الناسَ عن طريقه وصحبتهم، يتعلّق به المخذول عنهم، فيقول له: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين...} الآية.
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِنهم} أي: المشركين {كانوا إِذا قيلَ لهم لا إِله إِلا الله} هو أعم من إذا قيل لهم: قولوها، أو: ذكرت بمحضرهم، {يستكبرون} أي: يتعاظمون عن قولها، أي: كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها، وأَبَوا إلا الشرك، {ويقولون أئِنَّا لَتَارِكوا آلهتَنا لشاعرٍ مجنونٍ} يعنون نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، {بل جاء بالحق وصَدَّقَ المرسلين} لكونه مصدِّقاً لما بين يديه من الرسل. وهو ردٌّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى: {بل جاء بالحق} مقابل لقولهم: «شاعر»؛ لأن الشاعر في الغالب كَذُوبٌ، وتصديق المرسلين في مقابلة مجنون؛ لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم: {إِنكم لَذائِقو العذابِ الأليم} بالإشراك وتكذيب الرسول {وما تُجْزَون إِلا ما كنتم تعملون} إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، فعذبتم، على الكفر والتكذيب، وخلدتم، على نيتكم الدوام عليه. الإشارة: ينبغي للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد، وهي «لا إله إلا الله» أن يخشع قلبه، وتهتز جوارحه، فرحاً بها، ويخضع لمَن جاء بها، ودلَّ عليها، حتى يُدخله في بحار معانيها، وهو التوحيد الخاص، أعني: توحيد أهل العيان، وهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية النبوية. قال القشيري: {... كانوا إِذا قيل لا إِله إِلا الله يستكبرون...} الخ. احتجابُهم بقلوبهم أوقعهمْ في وهْدة عذابهم، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] وقال: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للهِ...} [النساء: 173]، فمَن عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته وعبوديته، قال قائلهم: ويظهرُ في الورى عزُّ الموالي *** فيلزمني له ذُلُّ العبيد ولمَّا لم يحتشموا من وصفه سبحانه بما لا يليق بجلاله، لم يُبالوا بها أطلقوا من المثالب في جانب أنبيائه. ه.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِلا عبادَ الله المخلصين} بفتح اللام، وكسرها أي: لكن عباد الله المخلصين في أعمالهم، أو: الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك، فليسوا مع أولئك المعذّبين، بل {أولئك} المخلصون {لهم رزق معلومٌ} يأتيهم بكرة وعشياً، كحال المياسير في الدنيا، فهو معلوم الوقت؛ لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري: قد كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم مَن له رزقٌ معلومٌ، فهو من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة، لهم في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم وأسرارهم، فالأغنياء اليوم لهم رزق معلوم لأبشارهم، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. ه. ثم فسّره بقوله: {فواكِهُ}: جمع فاكهة، وهي كل ما يتلذّذ به، فليس قوتهم لحفظ الصحة، بل رزقهم كله فواكه؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات؛ لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد، فما يأكلونه إنما هو للتلذُّذ. أو: معلوم، أي: منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم، ورائحة، ولذّة، وحسن منظر، {وهم مكرَمُون}: معظَّمون. قال القشيري: من ذلك: ورود الرسُل عليهم من قِبَلِ الله عزّ وجل في كل وقت، وكذلك اليومَ الخطابُ وارد على قلوب الخواص في كل وقتٍ بكلِّ أمر. ه. وقوله: {في جناتِ النعيم} إما ظرف لمكرمون، أو: حال، أو: خبر، أي: في جنةٍ ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا {على سُرُرٍ متقابلينَ}: يُقابل بعضها بعضاً، إن استوت درجتهم، فالتقابل أتم للسرور. وآنس. {يُطاف عليهم بكأسٍ} إناء من زجاج فيه شراب، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب، وإلا فهو إناء. وقد تسمّى الخمر كأساً. قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. {من مَّعِين} من خمر معين، أي: جارية في أنهار ظاهرة للعيون، وصف بما وصف به الماء؛ لأنه يجري في الجنة أنهاراً، كما يجري الماء، قال تعالى: {وأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ} [محمد: 15]. وقوله: {بيضاءَ} صفة للكأس، أي: صافية في نهاية اللطافة. {لذةٍ للشاربين} أي: لذيذة للشاربين، وصفت باللذة، كأنها نفس اللذَة وعينُها. أو: ذات لذة. {لا فيها غَوْلٌ} أي: لا تغتال عقولَهم فتذهب بها، كخمر الدنيا، وهو من: غاله يغوله: إذا أهلكه وأفسده. أو: لا فيها غول: إثم، أو وجع بطن أو صداع، وهو وجع الرأس، أي: لا ينشأ عنها شيء مما ذكر. {ولا هم عنها يُنْزَفُون} يسكرون، من: نُزِف الشارب: إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف، ومنزوف. ومَن قرأ بكسر الزاي فمعناه: لا يَنْفَد شرابهم، يقال: أنزف الرجل فهو مُنزف: إذا فنيت خمرته. {وعندهم قَاصِرَاتُ الطرْفِ} أي: حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم {عِينٌ}: جمع عيناء، أي: نجلاء، واسعة العين. يقال: رجل أعين، وامرأة عيناء، ورجال ونساءٌ عينٌ. {كأنهنَّ بَيْضٌ مكنونٌ} مصون مستور. شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار، في الصفاء والبياض. {فأقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون} في الجنة، تساؤل راحة وتنعُّم. والمعنى: أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب، كعادة الشَّرْب. قال الشاعر: ومَا بَقيتُ من اللَّذَّاتِ إِلاَّ *** أحاديثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ أو: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم في الدنيا. وجيء به ماضياً على ما عرف في أخباره المحققة الوقوع. الإشارة: المخلَصين بالفتح أبلغ من المخلِصين بالكسر المخلَصين: أخلصهم الله واصطفاهم، والمخلِصين: طالبين الإخلاص، مجتهدين فيه، الأولون مجذوبون، والآخرون سالكون، الأولون محبوبون، والآخرون مُحبون، الأولون واصلون، والآخرون سائرون. قال القشيري: والإخلاص: إفرادُ الحقِّ سبحانه بالعبودية، فالذي يشوبُ عمله برياء ليس بمخلص. ويقال: الإخلاص: تصفية العمل، لا توفيقه، وفي الخبر: «يا معاذ، أخلص العملَ، يكفك القليل منه» ويقال: الإخلاص: فقد رؤية الأشخاص. ه. {أولئك لهم رزق معلوم} للمخلَصين بالفتح رزق أرواحهم وأسرارهم، من النظر إلى وجه الحبيب في كل ساعة. وللمخلصين، رزق أشباحهم مما يشتهون. وقد يجتمع لهما، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته في الدنيا. وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة، على قدر سعيهم هنا، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني، وشرب المعاني على قدر الغيبة عن حس الأواني والزهد في بهجتها. وقوله تعالى: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} كان من تمام نعيمهم في الشرب: التحادث عليها بما يُناسب حالها، ومدحها، كما قال الشاعر: وإذا جلست إلى المُدام وشُربه *** فاجعل حديثك كله في الكاس كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة، وغاب في الشهود والنظرة، لا يجول إلا في عظمة الذات، وأسرارها، وبهائها، وجمالها، لا يخطر على باله غيرها، فحديث روحه وسره كله في الخمرة الأزلية. هذه هي الفكرة الصافية، والنظرة الشافية، متعنا الله بها على الدوام. آمين.
|